الاثنين، 31 أغسطس 2009

(الساحر)


(الساحر)

في أحد الصباحات الصيفية وجدت الرجال والنساء والأطفال في حارتنا يهرولون إلى ساحة كبيرة، هي تقاطع عدة شوارع وهم يهمسون في فرح طفولي ويتحدثون عن الساحر الذي يزور قريتنا مرة كل عام، أو ينقطع عدة أعوام ثم يعود مؤديا عروضه وحركاته التي تبهر الفلاحين السذج والموظفين الذين لا يصدقون ما يروه. وجدت نفسي أهرول مشدودا بخيط من التشويق إلى الساحة التي تحلق الناس بها. حلقة كبيرة متماسكة، أخترقتها بصعوبة ودسست رأسي بين الأرجل والأفخاذ والرؤوس الصغيرة التي أشم فيها رائحة العرق والذهول، كان رجلا طويل القامة يرتدي قميصا طويلا مشجرا مرخيا أكمامه حتى منتصف أصابعه، وفي يديه حلقات معدنية يضربها فتتشابك ويشدها أمام الناس ويعرضها لهم، ثم يضمها ويخرجها من بعضها. حلقة...اثنان... ثالثة..ورابعة، يتشابكون في لمح البصر ثم يفكهم بنفس المهارة، والناس يصفقون بشدة ويصفرون، ثم تمر ابنته الصغيرة وفي يدها طبلة مكسورة وعليها خيوط من الدوبارة، تستجدي الناس أن يدفعوا مقابل هذا الفن المتقن والسحر العظيم. لم تفلح في جمع شيء. الفلاحون بخلاء حذرون والموظفون حرصاء متوجسون، فتعود وتتكوم في جانب الحلقة. يؤدي "نمرة" أخرى يأمل من خلالها أن يهزوا جيوبهم، يرفع يده كمن ينوي الصلاة ويتكلم بصوت جهوري حاد ومكتوم ( جلا..جلا..إيدي فاضية) ثم يخرج قطعة نقود معدنية من بين أصابعه، يصفق الناس بشدة، فيخرج الثانية والثالثة والرابعة ، ثم يفرك أصابعه برشاقة وتتابع فتختفي القطع المعدنية، يدور على الناس مثل الملدوغ، يتخير من بين الوجوه وجها يعلوه شارب كثيف، يلتقط منه قطعة نقود معدنية، فيضحك الناس بشدة، وصوت قهقهاتهم يرعبني ويضيف إلى المشهد مزيداً من الخوف الذي تملكني والدهشة التي اقشعر لها بدني. تعود البنت الصغيرة مرة أخرى، تدور على نقاط الدائرة المتحلقة نقطة نقطة، عيونها كلها رجاء..ولا يدفع أحد، تقف أمامي طويلا، جميلة لكن وجهها يبدو مثل جدار متآكل و شعرها الأشقر الذي حرقته الشمس يجعلها مثل الجنية، أختبيء خلف أحد الأفخاذ المنتصبة أمامي، وأعاود النظر لأجد الساحر يجرها من شعرها وهو يقول بضيق(آخر ما عندي..هدوس على البنت دي، أقف على بطنها، مصارينها تطلع وتموت..أصحيها تاني!)

بدأ الناس يتذمرون وهو يخلع ملابس ابنته العلوية ويعريها تماما، رفعها لأعلى وهي ممدة على راحتيه ، دار بها على الجميع، ثم نامت على ظهرها مكشوف نصفها العلوي، بطنها تبدو خاوية، هابطة مثل حفرة صغيرة وعظام صدرها بارزة تنخس الضمائر.
(إيه رأيكم؟) يصفعهم بالسؤال، ويرعبني..
انصرف بعض الحضور، تقريبا معظم الرجال، وبقي الأطفال والنساء. داس بقدمه الغليظة على بطنها، تحسسها ببوز حذائه في البداية وهي لا تنطق ولا تلوي على شيء، ثم صعد فوق بطنها بكل وزنه، فبدت مثل قطعة الكاوتش المرنة ممطوطة تحت قدميه. صرخت النساء وبكى بعض الأطفال، وبقيت متسمرا في مكاني حتى بلت على نفسي وانسال خيط الماء إلى حذائي البلاستيك.
في لمح البصر ومثل الصاعقة هجمت عليه امرأة عجوز ونطحته في بطنه بقوة مثل ثور محترف، فوقع على مؤخرته وظهره، وتطايرت بعض النقود المعدنية من جيبه وكمه. نهرته بشدة واحتضنت البنت التي بدت مثل خرقة بالية. شرع في بكاء شديد وأخذ يغمغم بكلمات لم أفهم منها سوى:
يا ولاد الكلب !

______________


نشرت في مجلة العربي العدد 610 سبتمبر 2009
ضمن مشروع التعاون بين إذاعة الـ
BBC
ومجلة العربي

كتب عنها الأستاذ علي المقري- كاتب وناقد من اليمن-الساحرلـمحمد العرفي(مصر)
قصّة تستفيد من مشهدية الفلكلور الشعبي في تقديم الإدهاش عبر الفنون الآدائية الموصوفة بالسحر، فتظهرها كخلفية أو ديكور لرسم ملامح مجتمع يسعى إلى فرجة لم يعد بإمكانه دفع تكاليفها، وإن كانت ساحرة هذه الفرجة لا تثير ردود فعل المتفرجين إلا حين يشاء لها أن تفجر مكامن العنف في الأداء لعلها تتخذ شكلا مختلفا في العلاقة، يتم عبرها الأخذ والعطاء، مع أن ذلك لا ينجز، وهالة اللحظة هي التي تطغى مع صراخ لاعب السحر: يا أولاد الكلب
وهي عبارة شعبية تحيل كل ما هو مذموم للكلب

لمن يريد الإستماع إليها هنا، عبر إذاعة الـ
BBC


2 comments:

SomeHalth يقول...

فرحت جدا لما شفتها ف العربي
تخيل لما تلاقي حد بتحبه موجود في حاجة انت بتحبها
كإني مثلا كنت ماشي ف شوارع بلدنا وشفتك قاعد على مصطبة
شعور لا يمكن وصفه
مبرووووووووم يا خال

محمد العرفي يقول...

ههههه مصطبه حتة واحدة
يا سلام لو كوباية شاي معاها..وشيشه
تبقى عال قوي !

كثير أنا بك يا محمد