الجمعة، 10 يوليو 2009

بَهْـلَلَـهْ



جرى العرف في ورشة الأسطى بدير أن الصبي الكبير يضرب الأحدث سنا، ولو كان أصغر منه بعام واحد بحجة أنه أتى إلى"هنا" ليتعلم، لكن اللعنات والأكف المتعطشة دوما أن تصفع، كانت تصب لعناتها على صبي واحد.

*

يقف مثل فسيلة، بعوده الممصوص، وحنكه المدبب الصغير، وبعد أن ينتهوا من تصليح إحدى السيارات، يمارسوا عليه نقاهتهم الروحية التي سلبتهم إياها هذه المهنة اللعينة المخضبة بالزيت والشحم.
يتجمعون حوله، يناكفونه قليلا أو كثيرا-حسب المزاج-، والأسطى بدير منهمك تماما في النرجيلة التي بدت في هذه اللحظة بالذات جزء منه، وكأنه ولد بها

- إسمك ايه يالا؟
- محمّد
- لا.اسمك الصرصار(الإسم ينطبق تماما عليه.لا شك في ذلك)
- اسمك ايه؟
- ...................
- اسمك الصرصار( ويضربه الصبي الذي بدا أنه أكبرهم على وجهه مستخدما أطراف أصابعه بحرفية بالغة)
- اسمك ايه؟
- اسمي الصرصار( يتدارك نفسه قبل أن تنهال على وجهه صفعة أخرى)
- الكلب الصغير بيعمل ازاي يا صرصار؟
يبتلع ريقه بصعوبة ويجتهد كي يخفض صوته ليخرج نباحا خفيفا،
يضحكون بينما يصفعه أحدهم على سبيل المزاح.
- إنت رفيع كدا ليه؟
- عندي توته(دوده)
- أمك بتأكلك؟
- أيوه
- أكلت إيه النهارده؟
- رز وبيض مفقش
يغمز أحدهم للآخر( قل له ابوك بيفرجك على إيه؟)
يبتسم الصبي الآخر:
- صرصار.يا صرصار.أبوك بيفرجك على إيه؟
- على شكش(...)
ينخرطون في ضحك هيستيري، ويتدافعونه فيما بينهم مثل ورقة في مهب الريح..


*

عشرون عاما وأنا أتابعهم من خلف ستائر الشباك، يقفز قلبي، تكاد تتدحرج روحي على الإفريز كلما ضربه أحدهم أو استهزأ به. ولا أفعل شيئا.
يكبر الصبيان، يتقنون الحرفة، وبعد خمس سنوات أو أقل، يشقون عصا الطاعة ويفتتحون ورشهم الخاصة، لكن الصبيان الجدد كما القدامى، يتجمعون حول" الصرصار" الذي كان اسمه في يوم من الأيام محمد، عوده ما زال ممصوصا، وجهه في حجم كف اليد الصغير، وآثار جروح بادية على وجهه،
يناكفونه قليلا أو كثيرا-حسب المزاج- والأسطى بدير يرمي"لي" النرجيله، ويسعل سعالا شديدا بينما يسند بيديه على فخذه

-صرصار.يا صرصار، الكلب وهو نايم عامل ازاي؟
(يقعي على الأرض، يذم شفتيه، ويغمض عينيه مقلدا كلبهم النائم)
يخاطبه أحدهم(تراءى لي أنه أكبرهم) بشماتة بالغة، وعلى وجهه ابتسامة صفراء:
-صرصار، المره في الفيلم بتعمل ازاي؟
- آه.آه.آه
يضحكون بينما يصفعه أحدهم على سبيل المزاح، ويطلبون منه العرض الختامي لهذه المهزلة، الذي اتفقوا فيما بينهم اتفاقا ضمنيا وحرفيا أن يسموه"بَهْلَلَه"
-حته بهلله يا صرصار
يحاول أن يثبت أقدامه في الأرض، يحاول أن يثبت نصفه العلوي ناحية السماء، يلف خصره لليمين واليسار بسرعة، فيختلج جسده كله في رقصة بدا أنه قد تماهى معها للأبد.

.
(انتهيت)

4 comments:

SomeHalth يقول...

انت كويس على فكرة

محمد العرفي يقول...

هل عندك شك؟
بس مش بتاع كاظم

غير معرف يقول...

لست أدري لما قرأت هذه القصة مرات عدة مع أنها تؤلمني جدا كالواقع.. لست أدري إن كان ذلك نوع من جلدي لذاتي أم أن بهلله يذكرني بنفسي احيانا أم هو مجرد تعاطف انساني انثوي..
أكره عجزي حين لا أملك أمام واقع مؤسف سوى أن أتلم له بالقدر الذي أتألم فيه من لأجل من يسببون الألم لبهلله ولنا بالرغم من كل هذه المسافات بيننا..
أي مصير سيلقون؟؟
.
.
يسرى

محمد العرفي يقول...

مأساة حينما تقلد الضحية جلادها
مأساة أكبر، عندما يصبح الظالم والمظلوم مجرد ضحايا
في معادلة أكبر
سي لا في !