الأحد، 12 يوليو 2009

أمضي حقبا

الإضاءة بيضاء شاهقة، لا أعلم ما الذي أتى بي إلى هنا، ويبدو أنني في مبنى غير مكتمل، أمام مصعدين أتعجب من وجودهما، أحدهما يهبط والآخر يصعد، أحتار قليلا أيهما أختار، فينتابني الخوف وأبتعد عنهما، ثم أهبط من على سلم لم تكتمل درجاته بعد..وأهبط..أهبط، حتى تختفي الإضاءة البيضاء الشاهقة رويدا..رويدا، وتظلم الدنيا في عيني.
أشعر أنني في قبو، لكني أرى كل شيء، أرى الشمس تبزغ، وتعاود المغيب، تبدأ صفراء مبهجة، وتنتهي حمراء قانية، وتأتيني أصوات الباعة من الخارج، وحفيف أقدام المارة في السوق كأنهم يتلكئون أمام البضائع..تملؤني الحيرة، واسأل الرجل الذي بجواري ويرتدي قميصا من الفَل: أين نحن؟
فيقول بحزم: ألا تعرف أنك في سجن القلعة؟
شعرت أنني لست على ما يرام، وسألته: من أنا؟
فأجاب بثقة: أنت السجين رقم خمس وثمانون
قلت: ما اسمي؟
قال:لا شيء غير الأرقام هنا.فشعرت أنني وقعت في حيص بيص، وقلت:
في أي عام نحن؟
قال: نحن في عام المجاعة.
قلت ومالي أسمع أصواتاً للسوق والباعة والناس يمشون بتكاسل، يتلكئون أمام البضائع.
قال: هراء، لا تسمع سوى أصوات من الماضي، لا أحد يتكلم الآن، وإن تكلموا، سيهاجمهم العسكر
قلت لا مباليا: فليهاجمونهم..
أشار لي وهزهز يديه في الفضاء، وشعرت أنه يريد أن يخنقني، وقال: أنتم أيها الفتيان لا تفقهون شيئا.
وجدتني انسحب من لساني: فتيان مين يا ابن....، أنا ارجل منك ومن اللي خلفوك
وفجأة يجعر المخرج وينفر بغيظ: ستوب.ســتووووب.قلت كم مرة يا أستاذ التزم بالنص.التزم بالنص
قلت: نص مين يا ابو نص، لعلمك بقى انت مخرج ابن....، مفيش اثنين مساجين في زنزانة واحدة، وقبل أن ينطق بحرف واحد، قلت: اقرأ كويس عن سجن القلعة.
قال لي : دا فن يا أستاذ
قلت: "محدش" هيفهمه
قال: بالضبط. إحنا عايزين "محدش" بالذات هو اللي يفهم
وجدت الدم يغلي في عروقي، وقلت متباكيا: مالي دخل ..الله يخرب بيت الفن وسنينه، أخرجوني من هذه الزنزانة، ما أتيت إلا لأصور المشهد الذي فيه قبلة..
قال: لو أخذت واحدا من المصعدين، لما استعانت الممثلة الجميلة بدوبلير في هذا المشهد.
قلت: ومن الدوبلير ابن...
قال: رشدي أباظه قبل ما يتشهر
قلت: وهو رشدي أحسن مني في إيه؟ تسيبوني أتحبس واصور ساعتين في زنزانة، وهو يجي يبوس على الجاهز
قال: هذا ليس شغلك، أنت جاحد ولا تفهم شيئا عن الفن، و قلب في وجهي، ثم قال:
اعطوه سلاحا، سيكون دوبلير في فيلم الناصر صلاح الدين، بتاع أحمد مظهر
قلت: أي حاجه، المهم نشتغل..

تخفت الإضاءة، تتلاشى تماما، وتسقط فجأة فوق رأسي دائرة الضوء الإسطوانية، وأجدني فوق حصان، مرتديا زي محارب، فوق رأسي خوذة كبيرة تخفي ملامحي، وبيدي رمح طويل ثقيل، يكاد أن يلامس الأرض من فرط ثقله..
أسمع صوتا يهمس في أذني: مطلوب منك تقتل حمزة، أنت حر بعدها ولك ما تشاء
قلت: ل.. لـ.. لكن أنا صلاح الدين، أريد أن أقتل ريتشارد الكلب
يعود الصوت مرة أخرى: أنت واهم.لست صلاح الدين، ملامحك ليست ملامحه..أنظر. الكامير تتحاشى النظر إليك، تصورك من الخلف، تصور ماضيك فقط، والخوذة فوق رأسك، تعمي عينيك، لا أمل لك في المستقبل.
توكل على الله يا وحشي
قلت بصبيانية أحسد عليها: والله ما اعملها لو حتى تكتبوا مدينة الإنتاج الإعلامي بإسمي
قال المخرج: إذن أنت الإرهابي الذي يبحثون عنه، ألقوه في غوانتناموا.
شعرت بخوف شديد، وأظلمت الدنيا في وجهي، اللون البرتقالي يحاصرني من كل مكان، وسمعت هاتفا من بعيد: ارجع يا سراقة، ولك سوارى كسرى، فيرفع الحصان قوائمه للسماء ويسقطني على الأرض..أقوم وألتقط الرمح، وأصوبه تجاه المخرج، فيخر صريعا..ويتلاشى اللون البرتقالي رويدا رويدا، ويمتلىء الأفق بلون أحمر قاني
وأقوم على صوت دوشه وهليله، وأسمع حفيف الأقدام مرة أخرى، لكن الحركة هذه المرة أكثر سرعة، وأصوات الباعة تملىء الكون كله، وأجدني في سجن القلعة وحيدا كما تصورت

نظرت لأعلى فوجدت كوة صغيرة في السقف، ووجدت رجلا يرتدي عمامة كبيرة ووجهه صغير يطالعني، وقال: بتعمل إيه هنا يا أخ؟
قلت: بسلك المجاري
قال: لا.أنت في سجن القلعة، أنا مستعد اعمل لك جواز سفر مزور واهربك برا البلد
قلت: والمقابل؟
قال: تعطيني الساعة اللي في يدك
قلت: ناصح يا ولا..عرفت منين انها ساعة، هو انتم كان على أيامكم ساعات؟
قال: خلّص..كلامك الكثير دا هو اللي موديك في داهية
على الفور فككت الساعة عن معصمي، وكانت ساعة رقمية بالمناسبة، فتهللت أساريره وأخذ يعبث بأزرارها، ثم ظللني تحت عباءته، فوجدت نفسي في السوق، ولم أجد له أثرا.. ووجدت في يدي جواز سفر به صورتي مرتديا عباءة وعمامة فاخرة معلق فوقها ريشة، وكنت جائعا، فشممت رائحة شواء، قلت اخطف رجلي واتفقد الحوانيت على جانبي السوق، فشدني واحد من يدي
وقال: يبدو أنك جائع
قلت: أي والله، عصافير بطني لها ثغاء
فتبسم ضاحكا، وقال: عندنا سمبوكس، هريسة، لحم بالحلبة والمهلبية
شعرت أن معدتي تكاد تقفز إلى فمي وقلت له: الله يقرفك.أهذا طعام؟
ومضيت لحال سبيلي وهو يضرب كفا بكف
ثم جست في شوارع تشبه خان الخليلي، فقابلت جارية رشيقة القد، مليحة الوجه، فتتبعتها زي الأهبل،
وكانت تحد بضاعتها، وتنظر لي بين الفينة والأخرى
ثم وقفت فجأة وقالت: عايز إيه يا جدع انت؟
قلت: ما اسمك؟
قالت: شهرزاد
قلت: أها..تالله إنك ولية ثرثارة
ثم وجدت جارية أخرى، أكثر جمالا من الأولى، فتتبعتها
قالت: عايز إيه يا جدع انت؟
قلت: ما اسمك؟
قالت: شجرة الدر
قلت: صباحك قبقاب، تيك كير
ومضيت من أمامها وهي مذهولة من كلامي الغريب
ثم وجدت جارية أخرى، أكثر جمالا من السابقتين، ترتدي خلخالا
قلت: يا أرض اتهدي، ما عليكي قدي
قالت: عايز إيه يا جدع انت؟
قلت: اسقني عسلا
قالت: روح لأمك
قلت: إشطه يا معلم
ثم سمعت أصواتا من بعيد، ووجدت جمعا من الناس، فيهم الرجال والنساء والأطفال، الرجال يلقون بالحجارة على رجل، والنساء يبكون عليه، والأطفال يضحكون، لكزت الرجل الذي بجواري بكوعي، وقلت له..من هذا؟
شب على أطراف أصابعه، وقال: هذا نجيب محفوظ
قلت: ومالكم تضعونه فوق حمار، ووجهه للخلف وظهره للأمام؟
قال: حكم قراقوش
قلت: قراقوش مين..بتاع صلاح الدين؟
قال: اسكت يا جدع انت متوديش نفسك في داهية
قلت: وماذا فعل؟
قال: كتب رواية عن زوجة السلطان ، وقال أنها تخرج في انصاص الليالي بدون إذنه
قلت: جرى ايه يا ابو الشباب، ايه التخريف دا، واندفعت وسط الناس، حتى وصلت إلى منتصف الحلقة، وفككت يديه وأقدامه
وقلت له: حقك علينا يا أستاذ
قال: انت مين يا ابني مش واخد بالي
قلت: أنا المهاجر..رحال عبر الزمن، ولا لقيت لي وطن
قال: شاعر انت؟
قلت: والله ما اعرف يا عمنا، أهو بكتب وخلاص.كله كلام..يلا نهرب!
وقبل أن آخذ بيده لنقوم من الأرض، وجدت خيال الجند يظللنا، والسيف على رقبتي
وتقدم مني رئيس الحرس، وقال: أنت متهم بتعطيل سير العدالة
قلت: أي عدل، عدل صلاح الدين ولا عدل قراقوش؟
قال: إنت بتتفلسف كمان..معاك كارنيه؟
قلت: معايا..بس دي هدوم الشغل
قال: قم وريني وجهك..
ولما قمت ونظرت إلى وجهه، وجدته" هاني السبكي"- صاحبي وهو بالمناسبة فُضَحي، وميتبلش في بقه فوله- وقد انفجر ضاحكا وضرب كفا بكف:
ههاي..إيه اللي انت عامله في نفسك دا؟
إيه العمامة أم ريشة دي، شكلك ظريف قوي..ههاااي
تلفت حولي باحثا عن المخرج، لكني تذكرت أنني قتلته
فقلت للسبكي: بلاش بياخه..إنت إيه جابك العصر دا؟
وعاجبك اللي بيعملوه في الأستاذ نجيب محفوظ؟
ونظرت إلى الأستاذ، فخيل إلي أنه يشبه واحد صاحبي
فازداد السبكي ضحكا، وقال:
هههاي..محفوظ مين ياعم، دا عبد العزيز الشابوري صاحبنا
ونظرت إلى وجهه فإذا هو الشابوري فعلا
قلت: بقى كدا يا زيزو، تعمل في مقلب
قال: معلهش، تعيش وتاخد غيرها.
قلت: النهاية دي مش عاجباني
قالوا بحزن: ربنا معاك..وانطلقوا لحال سبيلهم

وضعت رأسي بين كفي، وأغمضت عيني، فقمت مفزوعا على أصوات انفجارات وقنابل، ووجدت الحوانيت تغلق، والسوق يموج بأناس تهرب، كل منهم يحمل قنبلة مسيلة للدموع فوق رأسه، فتتطاير رؤوس وعمائم في الهواء، ورأيت دبابة صهيونية تصوب دانتها ناحية بنت صغيرة، تمسك بيديها عروسا صغيرة من القماش.
قلت: حد يقول ستوب يا اخوانا، ولا من مجيب
وأحسست بيد ثقيلة تضغط علي، تطوق صدري، ودماء ساخنة تكاد تفور تتطاير على وجهي وأقدامي حتى فقدت الوعي..
وقمت، فوجدتني في الصحراء تحت ظل شجرة، ونظرت بعيدا فوجدت ذئبا يترص بي، فألقمته حجرا، وجريت خلفه، فهرب الذئب من فتحة المشهد، وتتبعته فوجدت هالة كبيرة من الضوء، هي فجوة بها سرداب طويل يؤدي إلى داخل دبابة، حتى إذا وصل إليها الذئب تفككت وأصبحت بلا قيمة، فيكتب للطفلة الصغيرة النجاة، وتكبر فتصبح مثل القمر، وتتزوج وتنجب بنين وبنات يمرحون فوق روابي القدس، ويستحمون بماء زمزم..فأنام مطمئنا
وأستيقظ فأجدني مع قوم موسى، البحر أمامنا عميق، وفرعون خلفنا يكشر عن أنيابه، والقوم ما بين خائف ومتزعزع، فابتسم وأشد على يد واحد منهم: لا تقلق.ستكونوا بخير
ويشق موسى البحر بعصاه، ويغرق فرعون وجنده في اليم، فأنام مطمئنا مرة أخرى، لكن قلبي لا ينام
وأقوم وقد طالت لحيتي وأظافري، فأقابل شيخا كبيرا على ساحل البحر، وأقول له: في أي عام نحن؟
فيضحك ويقول: لا زلت تهتم بالتواريخ؟
الأيام كلها تتشابه، ولكي أريحك لقد لبثت ألف عام، فانظر إلى الدنيا، لم يتغير فيها شيء
قلت: معك حق، ومضى كل منا لحال سبيله
ووقفت على ساحل البحر، فلاحت لي مدينة تربض في الصحراء، وتظلم الدنيا، فيسقط ملاك من السماء
وأقول لنفسي: شهاب يحترق
ويرد قلبي: إنه ملاك أيها الأحمق
وأنام ألف عام أخرى، وربما أكثر..وأقوم
فأجدني أصعد جبلا مكسوا بالخضرة، ولما وصلت لقمته، وجدت امرأة كأني أعرفها
قلت: ما اسمك؟
قالت: نصف اسمي دال
ووجدت عندها طفلة صغيرة، قلت من هذه؟
قالت: ضُحى
قلت:الله يخليها لك. هل تسمي ابنك محمد؟
قالت: أهلي يعرفونك، أخشى أن تعود بحيرة الدم
ودعتها، ثم صعدت جبلا آخربصعوبة، فوجدت امرأة
قلت: ما اسمك؟
قالت: أنا التي في المسلسل
قلت: سيقولون أنني اقتبست منه
قالت: لا.سيُعرض بعد ثلاثة أعوام، وهممت أن أترك الجبل، فوجد عندها ابنا
فقلت: من هذا؟
قالت: خير الأسماء ما عُبد
قلت: الله يخليه لك، ونزلت من الجبل متعبا
فوجدتني على جبل آخر، ووجدت عليه امرأة مبرقعة
قلت: اكشفي وجهك.فكشفت
فقلت: ما أطيب نبعكم !
...اسقني عسلا، فسقتني
قلت: إني جائع
قالت: رخصت لك أن تأكل لحمي هنيئا مريئا
قلت: الله يحفظك.ما اسمك؟
قالت: معذبة الشعراء، لم يظفر بي أحد من قبل
قلت: أنا لها..وقالت: أنا لك
قلت: أين أهلك؟
قالت: عند البئر..ستجدهم عندما يصدر الرعاء
فذهبت إليهم
قلت: زوجوني ابنتكم
قالوا: تأجرنا ثماني حجج
قلت: لا تبخسوا بضاعتكم
قالوا: تأجرنا عشرا؟؟
قلت: آجركم إلى أن ينتهي الأجل، والله على ما أقول وكيل
فقالت على استحياء: اصدقني القول..هل لك من نساء قبلي؟
فحكيت لها عن الجبلين اللذين صعدتهما من قبل، وزدت:
وكان على يساري ثلاثة جبال أخرى، عليهم نساء، لوحن لي من بعيد، وأشرت لهن برفق، وبكيت لأجلهن كثيرا
قالت: وما فضلي عليهن؟
قلت: إذا حضر الماء، بطل التيمم
قالت: زدني
قلت: كفضل القمر على الأرض، والشمس على العالمين
قالت: زدني
قلت:اللغة ضيقة أمام رحابة وصفك، ومجدبة أمام كرم أنوثتك، وأنّا لي أن أصل إلى المصب، وأنا دائخٌ عند بداية نبعك
فقالت: ما أطيب حديثك، وما أحلاك في قلبي
فاهتز الجبل غيرة منا، ومادت الأرض تحت أقدام من تربص بنا، وانجبنا من البنين والبنات ما يملىء الوادي وزيادة..


3 comments:

SomeHalth يقول...

حاسس إنك عايز تقول حاجة

محمد العرفي يقول...

حاجاااااات
بس هلب يور سيلف

غير معرف يقول...

على معرفتي القاصرة بمحمد العرفي الانسان لا أستشعر وجودك هنا جدا..كأنك مزجت بين واقعك وكاتبك إلى حد اختلطت فيه علي الامور..إن كنت أصبتُ..فلا تخلد لأحزانك برصاص و حبر..
المهاجر..كما دوما..لا يمكنني الا ان انحني امام قلمك
.
.
يسرى